ماذا تبقّى للعرب أن يأملوا من غدهم القريب وليس البعيد؛ وهم في هذه الحال من متاهات المصائر العامة لدولهم وشعوبهم. لقد استنفدوا دعوات الخلاص السياسية والأيديولوحية جميعها. ولجأوا إلى التديّن كما لو كانوا يعلنون بذلك يأسهم من المذاهب الواصفة لذاتها بالثورية وحتى الإصلاحية. لكن سرعان ما أدركت معظم طلائعهم عقْم التجربة الدينية من بداياتها السياسية حتى قبل أن تضع برنامجاً للمجتمع المتدين الذي يأملون به. فماذا تبقّى إذن بعد إتكاليات الإيمان سوى هذا الواقع الراهن الموصوف بوضع الإنتكاب البنيوي المستدام من كارثة إلى أخرى. فهل يمكن القول أنه بعد أن تغطىَّ الواقعُ السياسي والإنساني بأشلاء تجاربه الفاشلة، هل لم تترك على أرضه ثمة فسحة مكان بريئة من الشواهد الرافضة لكل أمل، كيما يُقام عليها مشروع لعمل عمومي آخرٍ قابل لاستعادة الثقة بإمكانية التغيير والتجاوز والمحاولة المتجددة.
أَفجع ما تُصاب به المجتمعات الفاشلة كمحصلة حتمية لتجاربها المنهارة ليس هو انحناءة الظهر تحت هول الدهر (الغادر). بل هو هذا التعامل مع الهول نفسه كما لو كان هو الحال الطبيعية والسوية لحياة المجتمعات. فمن مظاهر هذا التعامل التحايلُ على تحيين اليأس وتوزيعه بين خانتين للسلب أو للإيجاب. بحيث يكون نوعه السلبي هو الأشد فتكاً بحيوية الجيل الصاعد من الأمة حين توشك على الاستسلام التام لعدمها الطاغي بدون أية مقاومة للوعي المضاد له. وفي هذه الحالة من الإستسلام يصبح كل تفكير في الخلاص ضرباً من الوهم الخادع لأصحابه أولاً. أما الحديث عن النوع الآخر المسمّى اصطلاحاً باليأس الإيجابي، فهو الذي مع اقراره بالواقع الكارثي، فإنه لا يرى فيه دماراً شاملاً لكلية التجربة النهضوية. بل قد يعلن اليأس السلبي عن انغلاق دارة محدودة من حلقات الممارسات الضارة بالصالح العام. ويكون إعلانه ذاك بمثابة تحيين نهاية له. هنا يبرز دور اليأس الآخر الموصوف بالإيجابي، إذ يكون عليه أن يطلق حراكاً مختلفاً، منفصلاً عن ماض وقع وانقضى، وقد يصير منفتحاً على مستقبل متمتع ببداية ما، مختلفةً لدارةٍ من ممارسة الاصلاح المنشود.
في هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن العرب إجمالاً اعتادوا ضربات الخيبات العامة؛ بيْد أنهم في الوقت ذاته برهنوا على مقدرة إستثنائية، وحتى سحرية في إغلاق دارة السوء والإنطلاق ببداية مختلفة نحو ما لم يُفكّر به بعد مسبقاً، بل ربما أصبح التفكير به جزءا عمليا مما سوف يحققه كوقائع جديدة.
تطبيقاً لهذا المبدأ (المعرفي) يمكن إعادة النظر دائماً في كل منعطف حدثي كبير على أنه ليس تكراراً عقيماً كسوابقه، وإن وقعت الكثير من التشابهات في ظواهر كل من الإندفاعة اللاحقة مع السابقة. فنرى على سبيل المثال أن النهضة لم تخطىء كلياً عندما تساقطت أسيرةً للظاهرة التدينية بصورة شبه تامة. إذ كان لا محالة لمنطق التطور الطبيعي في إشكالية النهضة أن يُبرز في مرحلة معينة ما يسمَّى بفعليات اللاشعور الديني. كما لو كان هو المستودع العميق لأسرار الشخصية الكينونية للذات العربية. فهذه الأسرار لا ينبغي أن تظل مُتجاهَلَةً، ألا يُترك لها العملُ بأساليب ملتوية ومنحرفة، بعيداً عن رقابة وعي مدني بجاهزياتها. خاصة وإن الدين العربي: الإسلام، لم يكن عقيدة ميتافيزقية فحسب، فهو المسؤول عن إنشاء إمبراطورية وإنتاج حضارة، بل إبداع مكوّن أساسي مع مكونات الإنسانية لتاريخ الحياة على هذه الأرض.
غير أنه وربما من سوء الصُدفِ، أن نوع الإسلام المعاصر كان سياسياً خالصاً، وتجلياً لأسوا ما في السياستين العالمية والعربية معاً. من أعطال أجهزة الفهم أو التأويل المألوفة، موضوعة برسم الإستثمار الخبيث غربياً والشعبوي عربياً. فقد كان للإستثمار الغربي في بروز الإسلام السياسي وصولاً إلى الجهادي تحديداً، أكبر المؤثرات اللئيمة في اختزال عقيدة واحدة من أهم حضارات التاريخ، إلى مجرد مقتلات كارثية لاحدود لفظائعها الهمجية.
هكذا مع إنطلاق الأسلمة الجديدة باتت تعاني شعوب العرب ما لم تعرفه في أصعب تجاربها الماضية مع الأيديولوجيات الكبرى. وقد برزت إشكالات هذه المعاناة في أوضح صورها الصادمة مع فصول الربيع العربي، كما لو أن كلا من الربيع والأسلمة شكّلا معاً ثنائية تضاد، لا يخلو من تكامل ما بينهما. فحين يشرع الربيع العربي في تقديم ثورات شعوبه، يكون على الأسلمة فورياً أن تتصدى له، أي يكون على الأسلمة أن تلعب دوراً يمت إلى مصطلح الثورة المضادة. إذ يدعي التيار الديني عامة أنه هو الباعث الأصلي لكل ثورة راهنة، بل هو فكرها وقائدها، ومن ثم هو المخوّل وحده أمرُ تحقيقها وحراستها خاصة إزاء ( الأفكار الأخرى الغربية )، من أمثال الماركسيات والقوميات والليبراليات.
المتدينون، أو أساتذتهم يعلمون تمام العلم الأهمية القصوى لما يتميّز به إسلامُهم من الروابط شبه العضوية مع المجتمعات الأهلية، فيعملون جاهدين على استنفار المشاعر الذاتية في وجه كل ثقافة محسوبة على الأعزاب أولاً. هكذا لم تُحظ ( الأفكار المستوردة ) وعبر موجاتها المتتابعة، بأية فرصة، لكي تضرب خلالها بعض جذورها العميقة في النفوس الشعبية. فظلت أفكار من مثل المبادىء المدنية والحقوقية عائمة على سطوح الرأي العام المحلي دون أن تخلّف آثاراً باقية بعد إضمحلال رموزها الثقافية والسياسية.
إن ثقافة الحرية هي العدّوة الأولى المثيرة لغضب الكتل الشعبوية السادرة في إِنحطاطها الأزلي. وباعتبار أن «الربيع» لا يمتلك في جعبته إلا هذه الثقافة، فهو محكوم عليه مقدماً بالإختفاء، السريع، على الأقل من قبل أدعياء الدفاع عن « العقيدة الشريفة» الوحيدة، عند هؤلاء القوم لن تكون العقيدة موضع نقاش. انها تمثل قمة المسلمات لصنف العقليات الصالحات فحسب. هذا مع العلم أن الإسلام كحضارة كان يشكل المختبرات الأولى لأعظم مبادىء التمدن الإنساني. وذلك باعتراف رُوّاد تلك المدنية في مختلف مراحلها. بل أكثر من هذا فان ما صار يُرعب بعضَ اليمين الغربي (العنصري) هو أن افتضاح أغاليط المدنية الغربية سيكون على يد هذا (الغزو) لطائفة متعاظمة من مسلمي الشرق حاملين معهم إلى عقر الدا ر الغربية نفسها المشروعَ الآخر للمدنية الإنسانية الصحيحة. فليست هجرة أمواج الجنوب الفائضة على الشمال هي المخيفة في حد ذاتها، ليست ألوفها، بل حتى ملايينها هي المرعبة للوجدان الغربي، بقدر ما هي صدفيّة الحرية، وفروقها الحادة ما بين جناحيْ المدنية شمالها وجنوبها.
مجيء «الربيع» العربي هو المدخل إلى كل هذا الصخب الزائف حول من هم حملة الهمجية وسلالتها المستديمة، سواء كانوا عرباً أو عجماً أو من الشقر البيضاوين. وإذا كانت أوطان العرب وحدها حتى الآن هي مساحات الجبهات المستعرة حول أخلاقية المدنية الحقيقية، فالغرب يدرك أنه لن تبقى الحدود الجغرافية وحدها قادرة على حماية معتزلاتِ السعادةِ الإستثنائية لأبناء الشمال. لن تتأخر لحظة الحسم الناجز والقاطع عمن ستكون له رسالة الحماية البريئة لصدقية المدنية. لحظة هذا الحسم، هذا الحكم هي الفاصلة ما بين حضارة مصابة بعقم السعادة العادلة، ومشروع حضارة أخرى لأبناء الجنوب، لم يفلح حتى الآن إلا بإثارة أعنف حروب التصفيات الماضوية كلها التي راح ينشرها هذا المسمى بالربيع العربي.
هكذا قرَّر أهل الشمال أن يقتلوا الربيع العربي قبل أن يبزع لهم ربيع غربي، ما زال ينتظره خيرة عقلاء القوم هنا أو حتى النهاية ما بعد (القضاء) ربيع الجنوب الدموي يوماً ما.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي

إرسال تعليق

 
Top