1.  قديما، عاش في مصر مجتمع ذو بنية طبقية رهيبة، كانت الغلبة فيه والسيادة المطلقة لشخص واحد يمتلك ويحتكر كل شيء: السلطة والقوة والمشروعية... والحقيقة أيضا، إلى أن ساهمت ظروف كثيرة في "رقيِّه" إلى مصاف "الآلهة". حينها كانت "العامّة والجماهير" قطيعا وتبعا. أما "مثقفو العصر" وخاصتُه ـ وهم هنا فئة السَّحرة ـ فقد كانوا يقومون بدور خطير جدا؛ كانوا يعملون على "الشّرعنة" و"التأصيل" لكل أفكار الفرعون وتصوراته وأعماله، إلى أن ظهر رجل يمتلك مشروعا آخر، وينطلق من "مشروعية" مختلفة، ويدعو لحقيقة من طينة معروفة، ولكنها غير مرحب بها عند الملإ المستكبر. 

هذا الرجل هو في المقام الأول نبي ورسول، ولكنه، بمعنى من المعاني، "مثقف"، فكان أول ما قام به، وبدون وجل أو مواربة، أن قصد رأس السلطة يريد استقطابه لدعوته، وتغيير نمط تفكيره وطريقة رؤيته لله والإنسان والكون. وعندما رُفضت "الدعوة الجديدة" اختار الرجل أن يتوجه إلى "مثقفي" عصره محاولا إقناعهم برسالته، وقد استعمل ـ في الظاهر ـ نفس آليات اشتغالهم وطرقهم، لقد راهن الجميع على البعد الروحي الغيبي في الإنسان: السحر من جهة و الوحي من جهة أخرى.


   "المثقفون" في البداية أبانوا عن خسَّة ووضاعة كبيرتين؛ وذلك عندما طلبوا المقابل المادي والحُضْوَة والمكانة عند السلطة في حالة الفوز في "المواجهة" التي أرادوها أن تكون حاسمة في وجه "المشروع الجديد"، فجمعوا الجماهير ليكونوا شهودا على هزيمة "الوحي".

   لكن، وبعد أن بان تهافت ما معهم من بضاعة فكرية ودعاوى أيديولوجية، كانت لهم الجرأة والشجاعة حتى يعلنوا أمام محبيهم وتلامذتهم، بل وأمام صاحب اليد الجبارة فيهم، بأن طُرقهم وآليات تفكيرهم قد ظهر فشلها. فقاموا ـ في اللحظة والتَّـوِّ ـ بنقد ذاتي صارم، تولد عنه تغيير جذري في الرؤية والمنهج والموقف والموقع وشبكة المفاهيم المعتمدة لديهم وأفق تفكيرهم.

   بعد ذلك، تقدموا في فرح ويقين تاميَّن كي يدفعوا ثمنا باهضا لهذا التحول، ولم تُجْدِ نفعا كل مؤسسات السلطة القائمة في إيقاف الانحدار الذي بدأ: لقد جربت معهم كل أساليب الترغيب والترهيب دون جدوى.

   في الحقيقة، كانوا "طليعيين" حقيقيين، دفعوا من حياتهم، بل كلها، ثمنا لاقتناعاتهم الجديدة، ولكنهم ـ وهذا هو المهم ـ قدموا للجماهير النموذج والقدوة في "المصداقية والفاعلية النضالية"

2. ترى، لم كل هذه الرموز والاستعارات؟

   لأخلص للحديث عن الدور والوظيفة الغائية التي ينبغي أن يطلع بها مثقفونا في العصر الحاضر، إنها رسالة عميقة ومركزية وممتدة، وأعبّر عنها بلغة بسيطة ومتواضعة تقول بأن عليهم أن "يحببوا للناس شخصية موسى ومبادئه، ويكرِّهوا لهم شخصية فرعون وطرقه"، وطبعا، تحت هذا الكلام علم كبير ومعاني جمّة لمن يفهم القصد.

   نقول هذا الكلام لأن هناك اليوم من يعلن عن "موت المثقف" و"نهاية الداعية"، وانتهاء دوره لصالح الخبير والوسيط والمتخصص. صحيح أن المثقف بمعناه التقليدي قد فقد جزءا كبيرا من مصداقيته بسبب فقدانه للفاعلية المجتمعية، وأصبح كل مرة يعلن عن تفاجئه بالوقائع والأحداث التي ما عاد يشارك في صنعها. وصحيح أيضا أن التغيير ينبغي أن يشارك فيه أكبر عدد ممكن من قطاعات المجتمع، ولكن لا بد من رواد يكتشفون الطريق ويتنوَّر الناس بتصوراتهم.

   من أجل ذلك نقول بأن المثقف ـ رغم كل شيء ـ ينبغي أن يبقى ضمير المجتمع والأمة، إنه المكلف بـ"الحراسة"، والمتيقظ المتنبه المستعد لـ"دق الجرس"... هو المتنبئ، هو الطموح دائما، ليس إلى تفسير العالم فقط، بل إلى تغييره. فمخطئ من يعتقد بأن المثقف المعاصر عليه فقط أن يجيب على سؤال "ماذا يحدث؟"، بل وبعد ذلك ينبغي أن يحرر القول في "ما العمل؟".
إن المكان الطبيعي للمثقف العضوي/ المسؤول/ العمومي هو في الجهة التي توجد فيها دائما المعارضة السياسية.

إرسال تعليق

 
Top